
أحمد سالم
أنت تسميها إيجابية، وإنك بتهون علي وبتوريني نص الكوباية المليان، والذي يصلني من هذا هو إنكار لمشاعري، وأنك لا تفهم حقيقة الألم الذي أمر به.
وقد قال الله لنبيه: {ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون}.
وتلك المصادقة على شعور المتألم والاعتراف به= هي أولى ما ينبغي الاعتناء به.
مقتطفات أخرى
عن ابن عباس رضي الله عنه: ((أن ضمادًا، قدم مكة وكان من أزد شنوءة، وكان يرقي من هذه الريح، فسمع سفهاء من أهل مكة، يقولون: إن محمدا مجنون، فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي، قال فلقيه، فقال: يا محمد إني أرقي من هذه الريح، وإن الله يشفي على يدي من شاء، فهل لك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، أما بعد» قال: فقال: أعد عليّ كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثلاث مرات، قال: فقال: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن ناعوس البحر، قال: فقال: هات يدك أبايعك على الإسلام، قال: فبايعه)).
وفي هذا الحديث دلالة على أصل عظيم من أصول الاستدلال، أن الحجة تكون صحيحة في نفسها، ولكنها لا تقع منك موقعًا إلا بحسب ما معك من العلم والفقه؛ فيفوت الرجل من الاهتداء بالدليل بقدر نقص علمه وفقهه وعقله؛ لذلك اهتدى هذا الرجل بتلك الكلمات القلائل؛ لأجل ما معه من العلم الذي هداه لفرق ما بينها وبين كلام الناس، بينما لا يهتدي آخرون بما هو أظهر من الحجج؛ لأجل نقص علمهم وفقههم.
عدم اقتناعك ليس دليلاً على وهاء الحجة، بل أحيانًا كثيرًا يكون لعدم استواء علمك وفقهك إلى الدرجة التي تؤهلك للبصر بالحجج!
فهذه الكلمات التي أسمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم ضمادًا= نسمعها جميعًا، لكنها لا تقع منا نفس الموقع الذي وقعته من ضماد، حيث أبانت له هذه الكلمات أن صاحبها لا يستمد معارفه من البشر، وإنما يوحي إليه الله.
وسبب الفرق بيننا وبين ضماد: هو ما لديه من المعرفة بالكلام المتداول على ألسنة الناس، وهي المعرفة التي وزن بها كلمات النبي صلى الله عليه وسلم، وهي الموازنة التي أنتجت أن هذا الرجل لا يُعلمه رجل، وإنما هو نبي يوحى إليه.
ومن هنا تعلم: أن صلاحية القرآن لإقامة الحجة على المصدر الإلهي لهذه الرسالة وهذا الدين= هي صلاحية ثابتة في نفسها، ولكن انتفاعك بها مرتبط بما في نفسك من المعرفة والعلم، ولعله لأجل ذلك يكثر في ديننا الحث على العلم والتعلم وعلى رفع المستويات المعرفية للناس.
في صور ناسا الأخيرة هناك نوع من الانبهار الطبعي، أو النابع من مسايرة الجو العام..
وهناك نوع آخر لا يجد في نفسه تأثرًا بالذي يرى، وهذا شيء طبعي لا يستطيع الإنسان أن يتكلف ضده، وأحيانًا ينبع هذا من كراهية مصدر المنجز العلمي أو كراهية الهيصة اللادينية التي قد تصاحبه..
وهذا النمطان معًا يعبران عن غياب وهجر عبادة جليلة من العبادات الإسلامية، وهي عبادة التفكر والتأمل في بديع خلق الله عز وجل، وهذا التفكر والتأمل يحصل بالنظر العامي الفطري شريطة أن يعطي الإنسان لذلك حقه من القصد والوقت والحضور الذهني والنفسي، ولا يتركه ليأتي عفوًا كيفما اتفق، وهذا التأمل العامي الفطري هو الذي يدعو له الوحي في كثير من الآيات.
ويحصل بصورة أخرى عن طريق تحصيل أدوات العلم والمعرفة بشيء من تفاصيل ذلك، وهذا النوع هو الذي تجده في قول الله: {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود، ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور}.
والعلماء هنا كما يقول ابن عطية هم: ((المحصلون لهذه العبرة الناظرون فيها)).
فالتدبر والفكر والتأثر فروع تزيد بزيادة المعرفة والفهم والفقه، وكثير من المنتسبين لعلم الدين حصلت عندهم نفرة من العلوم الطبيعية إما بسبب مصدرها وإما بسبب توظيف السوء لها، وليس الطريق هنالك..
إن طلب المعرفة بطرف من علوم الكون وعلوم الإنسان وعلوم الحيوان، وتخلية الوقت مع حضور الذهن والقلب والنفس والروح= لمما يزيد في الإيمان بالله وخشيته وتعظيمه: {هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه}.
لا أقول لك هذه كتب كذا وكذا تعلمك ذلك، فنحن في عصر الصورة، وهناك وفرة ظاهرة في المواد الفيلمية المصورة التي إذا نظرت إليها بقلب حاضر وجدت أثر ذلك في نفسك، مع كون الكتب تساعد وتنفع وتزيد الفقه.
وإن من أكثر آيات القرآن فضلًا خواتيم آل عمران خاطب الله بها المسلم والكافر وفي مطلعها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}.
وانظر إلى فعل التدبر المقصود من رسول الله هنا:
عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ خرج ذات ليلة بعد ما مضى ليل، فنظر إلى السماء وتلا هذه الآية: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [آل عمران:190] إلى آخر السورة ثم قال: اللهم اجعل في قلبي نورا، وفي سمعي نورا وفي بصري نورا، وعن يميني نورا، وعن شمالي نورا، ومن بين يدي نورا، ومن خلفي نورا، ومن فوقي نورا، ومن تحتي نورا وأعظم لي نورا يوم القيامة.