أحمد سالم
بين النمط الأسلوبي للسنة النبوية، والنمط الأسلوبي للقرآن الكريم فرق هائل جدًا، حتى أن من استمع لدقيقة واحدة من هذا وذاك لم يشتبه عليه قط الفرق بينهما، وهذا من أظهر الدلائل على أن مصدر الكلامين مختلف، ثم يأتي الفرق الهائل بين النمط الأسلوبي القرآني وأي نمط أسلوبي بشري ليحصر المصدر في كونه مصدرًا إلهيًا، ولينظر الناس ما شاؤوا في أي أدب أنتجته أية حضارة فإنهم يجدون الفرق بين هذه الآداب هو فرق بين ألوان تنتمي إلى حقل واحد، أما البيان القرآني فنمط وحده لا شبيه له على الإطلاق.
والتدبر في الفرق الأسلوبي وحده، هو أظهر وأقوى الأدلة الإيمانية وأعمقها أثرًا في النفس.
مقتطفات أخرى
في حديث الأبرص والأقرع والأعمى، يقول رسول الله: فأراد الله أن يبتليهم.
وذكر ابتلاءهم أن الله استجاب لرجائهم فصرف عنهم ما بهم من المرض ومن عليهم بما طلبوه من المال، ثم أتاهم ملك من الملائكة في صورة رجل مسكين يسألهم شيئًا يتزود به، فأما الأبرص والأقرع فأمسكا عنه مالهما وقالا له: الحقوق كثيرة، فكانت عقوبتهما أن عاد إليهما ما كانا فيه من الفقر والمرض، وأما الأعمى فأراد أن يُعطي المسكين ما يشاء المسكين أخذه، فقال له الملك: أمسك مالك فإنما ابتليتم، فقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك.
وأنت إذا نظرت إلى هذا الذي أخبر رسول الله عنه أنه ابتلاء، وجدت أنهم ابتلوا بالعافية والنعمة وشكرها، وهذا الابتلاء ابتلاء خفي لا يشعر به الناس، فنحن نعيش في زحام من النعم لا نهتم بشكرها والامتنان لوجودها، ولا نشكرها بالطاعة والتوبة والاستغفار، وبلاء العافية والرخاء بلاء عظيم لو غفل الناس عنه فلم يؤدوا للنعمة حقها.
الله يقول: أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين
إن المسلمين والناسَ كلهم في هذه الدنيا؛ لأنها دار بلاء، المصابُ منهم مبتلًى بالضرَّاء، والمعافى منهم مبتلًى بالرَّخاء مُمتَحَنٌ بالسرَّاء، كلاهما في اختبار، والعدلُ الرباني لا يُنظر إليه من جهةِ كفة الدنيا فحسب، بل ميزانه الدنيا والآخرة، فإذا أتيت على ربك يوم القيامة فلم تجده أعطى المحسِنَ أجرَ إحسانِه وزيادة، وعاقبَ الظالمُ المسيءَ بإساءته عذابًا مهينًا جزاءً وفاقًا= ساعَتها اسأل عن العدل الإلهي أين هو.
وقد كان فيما قدَّره اللهُ وقضاه في هذه الدنيا، أن رأينا أراذلَ الخلقِ يقتلون الأنبياء، وجُعل قتلُ نبيٍّ كريمٍ قُربانًا يتقرب به ملكٌ كافر لِبغيٍّ فاجرة.
وقد أخبرنا اللهُ في قرآنه عن ملكٍ لا يساوي فِلسين، وهو يَحفِرُ الأُخدودَ ليُلقيَ فيه المؤمنين، ولم يتصارخ خيرةُ المؤمنين هؤلاء يتسخَّطون أقدار ربهم؛ أن قد آمنا، فكيفَ يتسلَّطُ علينا من يعذبنا فيحرقنا؟!
ما يحدث ليس جديدًا أصلا، وإن الله لم يَخدِع الناسَ شيئًا، بل هو من حكى لنا أخبار الابتلاءات العظيمة التي وقعت بأوليائه، أفحسبتم أن تؤمنوا وأنتم لا تفتنون؟
على أي جوانبها تدورُ الرحى، فإنها لا تدور إلا لتُلقي برأسكَ على عتبةِ مولاك، صابرًا على البلاء، شاكرًا على النَّعماء، مستغفِرًا من الذنوب، مُطيعًا مفتقرًا ترجو رضاه والجنة.
والمؤمن يجعل بين عينيه قولَ السحرةِ لفرعونَ لَمَّا آمنوا فعذَّبهم:
﴿فَاقضِ ما أَنتَ قاضٍ إِنَّما تَقضي هذِهِ الحَياةَ الدُّنيا﴾ [طه: ٧٢].
وقولهم: ﴿قالوا لا ضَيرَ إِنّا إِلى رَبِّنا مُنقَلِبونَ﴾ [الشعراء: ٥٠].
إن ما حدث للسحرة مع فرعونَ من أظهر نصوص الوحي في فهم طبيعةِ الابتلاءِ وميزان الخير والشر، فهذه الدنيا وما يكون فيها ليست معيارًا للخير والشر، وليست مَيدانًا لتحقيق العدل الإلهي أصلا.
إن الله عز وجل يبتلي عبادَه ليرفعَ درجات الصابرين، ويزيدَ في عذابِ الظالمين، ويُمحِّص صَفَّ المؤمنين، ولِتُقامَ بهم الحُجّة على عذاب المجرم يوم القيامة، فلا يُشفِق عليه أحد، ولا يَعتذر عنه أحد، وليمتحن اللهُ بهم أمثالنا من المؤمنين: أيثبُتون أم يستزلهم الشيطان فيكفروا؟
أما المُبتَلون= فغمسة في الجنة تُنسي كل شقاءٍ كأن لم يكن، يَخلُقهم الله خلقًا آخر، هو ربهم وملكُهم، لولاه ما كانوا.
وهو سبحانه ذَكر لنا في مُحكم التنزيل خبرَ المؤمنين يُلقَون في أُخدود النار، ثم بيَّن النبيُّ ﷺ من ذلك موقفًا عظيمًا فيقول ﷺ: "جاءت امرأةٌ ومعها صبيٌّ لها، فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الغلام يا أمّ اصبري، فإنك على الحق".
إن طائفةَ المؤمنين الذين أعدَّ اللهُ لهم جناتِ النَّعيم= يعلمون أن الدنيا وشرَّها كله يسير في مقابل جنةِ الخلد ونعيمٍ لا يَفنى، ونظرةٍ إلى وجههِ الكريم لا يَبقى في النَّفس بعدها شيءٌ غيرَ النعيمِ تذكره.
{إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى}، من وعى هذه الحقيقة= نجَّاهُ اللهُ من مصير الذين خَسِروا أنفسَهم فصاروا يُحاسِبون الله على فعله، ويقضون عليه في خلقه.